الأربعاء، 23 أكتوبر 2013

البائع


البائع


 ناصر الحلواني


في قلب المَيْدَان، حيث يَمُرُّ البشر من كل الأنحاء إلى كل الأنحاء.

وقف البائع، عند الحافَّة بين الأرض الطينية، التي كان يُفترَض أن يغطِّيَها النجيلُ الأخضر، وبين الرصيف، الذي كان يُفترَض أن يكون مرصوفًا، إلى جوارِه مقعد قابل للطَّي، وبيدِه قطعة من الكرتون، مكتوب عليه: "الدقيقة 10 جنيهات".

وجهُ الرجل يمتلئ بأزمان عديدة، يظن مَن ينظر إليه أنه تجاوَز مرحلةَ حسابِ العمر، وربما يُدْهِشه أنه ما زال حيًّا، وتَزْدَاد دَهشَته برؤيته واقفًا، إلى جوار مقعد خالٍ.

يجتازُه العابرون، بعضُهم لا يَكَاد يَرَاه، وبعضُهم يَنْظُر إلى اللافتة والمقعد، ولا يرى شيئًا آخر، فيَمضِي متسائلاً: ماذا يبيع هذا الرجل؟

وقليلٌ منهم مَن يَقِف للحظات، محاولاً معرفة كُنْه بضاعته، تلك التي تُقدَّر بالدقيقة، فلا يَرَون شيئًا، ولا يَسْأَلون، ويَمْضُون إلى مشاغلهم.

ويَمُرُّ به رجلٌ، يحوز قدرًا من الفضول بأكثر من إلحاح مشاغله، فيقرِّر أن يَعرِف بضاعة هذا البائع.

اتَّجه إليه، محاولاً إزاحةَ ما يَعْلَق بأذنيه من ضجيج، وما يَعْلَق ببصره من تلاوين لا نهائيَّة، يَغْلُب عليها لون الغبار، وفي سكون، يَرْنو إلى البائع الصامت، يسأله:
أي شيء تَبِيع؟

يَرُدُّ البائع، في هدوء يغلب عليه ثقل العمر:
دقيقة بعشرة جنيهات.

أتاه صوت البائع مخمليًّا رصينًا، وعَجِب الرجل أن استطاع سماعه بوضوح، وسط ذلك الكون من الأصوات المحيطة، فأجاب:
نعم، أستطيع القراءة، ولكن أرغب في معرفة دقيقةٍ من ماذا؟

رنا البائع بعينين عميقتي النظرة إلى عيني الرجل، وقال وكأنه يلقي في قلبه:
مجرد دقيقة، والدقيقة زمن، هل الدقيقة إلا زمن، أو جزء من العمر؟

اختلطت في نفس الرجل الحيرة والتوقير للكلمات وصاحبها، وفكَّر؛ هل هو مجنون، أم حكيم ممن كان يقرأ عنهم في (الحواديت) القديمة؟ ولكنه لاحظ أن نظراته لا تحمل معنى الجنون، وكلامه يدل على الفهم ، فقرَّر أن يخوض التجربة إلى آخرها، فقال:
حسنًا، أريد دقيقة!

فمد البائع كفًّا مُتَغضِّنة، مثل جذع شجرة عتيقة، وإن ما زالت تشي بنضارة حياة تسري داخلها، وقال:
عشرة جنيهات.

فأخرج الرجل الجنيهات العشرة، ووضعها في كف البائع، الذي صار صوته أشدَّ عمقًا ورحابة، سائلاً الرجل:
هل هناك من شيء تودُّ أن تفعله، ولا تجد له وقتًا؟

تعجب الرجل من السؤال، فقد كان يتوقَّع أن يناوله البائع شيئًا لا سؤالاً، ولكنه أجاب، مدفوعًا بالرغبة في مواصلة تلك المغامرةِ، بلهجة تغلِّفها دهشة غير مخفيَّة:
الكثير من الأشياء، لا أجد لها وقتًا!

مثل ماذا، تكلَّم بصدق؟

شَعُر الرجل أن المغامرة أخذت شكلاً جديدًا، فثَمَّ شعور بالحميمية، يشعره كدفء ينتشر بين جنبيه تُجَاه هذا البائع الغريب، فأجابه:
كأن أجد وقتًا للقراءة في المصحف، على سبيل المثال.

أشار البائع إلى المقعد، وكأنه يوحي إلى الرجل بالجلوس، فجلس الرجل مأخوذًا بإشارة البائع، فيما مدَّ البائع يده إلى مخلاة معلَّقة خلف ظهره، تنبعج أنحاؤها بأطراف أشياء كثيرة، لا تبين عن كنهها، وأخرج مصحفًا، وناوله للرجل، وقال:
اقرأ.

ازدادت دهشة الرجل، ولكن عيني البائع، بصفائهما اللامع رغم العمر، وبعمقهما الذي جعله يشعر وكأنه لا يراهما، بل يخوض فيما وراءهما، يجول داخلهما في مدن غائرة في الزمن، هائلة البراح، جعلتاه يمدُّ كفَّه بهدوء، ويتناول المصحف في صمت، وأخذ في القراءة كالمسحور من نظرة البائع، وكالمذهول من فعله.

وما أن مرَّت دقيقة، حتى غشيه صوت البائع في رفق:
حسبك.

ومدَّ كفَّه في سكون، لم يشعر معه الرجل بضوضاء الميدان الفسيح من حولهما، ولم يَرَ نظرات التعجُّب في عيون المارِّين بهما، فقط صوت رزين النغم يقول له:
انتهت الدقيقة.

اشتدَّت رغبة الرجل المأخوذ، ما زال في سبر غور هذا البائع الغريب الأطوار، فقال:
لكنك لم تعطني شيئًا مقابل ما أعطيتك من مال!

فجاءه الصوت، بنفس العمق، والسماحة:
أنا لم أَغُشَّك، لقد أعطيتك دقيقة، وجعلتك تفعل فيها ما ترغب.

لكن، كان يمكنني أن أفعل ذلك من دون مقابل!

فأجابه البائع، وقد صارت لهجته أكثر حنوًّا وقربًا:
هذا صحيح، لكنك لم تفعل، وآثرت أن تدفع ثمنًا لما يمكنك أن تحصل عليه دون مقابل، إن عمرك كله ملكٌ لك، إنه مقدار الزمن الذي وهبك الله سبحانه إياه، ولكنك تُهْدِره، حتى لا تعود تملكه، فتضطر أن تشتريه.

قام الرجل عن المقعد القابل للطي، ونظر إلى البائع نظرة المتفكِّر فيما سمع، بينما كان البائع يطوي المقعد ويحمله، ويمضي إلى سبيله، وهو يتمتم:
الحمد لله، رُزقنا زاد اليوم.

ومضى، كسحابة فريدة في سماء صيف دافئ، متوغِّلاً في قلب الميدان الصاخب، والرجل يتبعه ببصره، إلى أن ذاب في الزحام المحيط، بمخلاته، ومقعده المطوي، وحكمته.

وغائبًا في نفسه، سابحًا في بحر من أفكار لها رائحة غرفة أُغلِقت لدهور، سار الرجل في طريق يراه لا بعينيه، وهو يتمتم:
الحمد لله، بثمن قليل، استعدت عمرًا.

وانخرط في قلب الأصوات المتلاطمة، وهدير الألوان المكسورة بالغبار.

وفي نفسه، كان نهر رقيق من السكينة يَسْرِي.


شبكة الألوكة


 تم النشر يوم  الأربعاء، 23 أكتوبر 2013 ' الساعة  4:54 ص


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق